هل بدأت الحرب العالميّة الثّالثة؟
2024-01-26
كثيرةٌ هي التوصيفات التي أُطلقت على حرب غزة، مثل وجودية وتاريخية.. إلى عالمية، لكن توصيف الحرب بعالمية قد يعني خسائر بشرية بالملايين على غرار ما حصل في الحربين العالميتيْن الأولى والثانية، واستخدام أسلحة نووية وأسلحة دمار شامل، إلا أن التطوّر في الحروب قد يفتح الباب أمام حرب عالمية تستخدم فيها وسائل مختلفة، وربما يكون عدد القتلى أقل بكثير من قتلى الحربين العالميتين.
فإذا عدنا إلى الحرب العالمية الأولى التي بدأت أوروبية وانتهت عالمية، وأشعل شرارتها طالب جامعي باغتياله ولي عهد النمسا عام 1914، فهي انتهت بصراع عنيف لأربع سنوات شاركت فيه أكثر من 70 دولة، راح ضحيته نحو 22 مليون إنسان، ومهّد لتغييرات سياسية كبيرة، وكان وراء ثورات في دول عديدة.
أما الحرب العالمية الثانية فكانت نتيجة للتسويات التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى والتي غيرت رسم خريطة العالم، وبخاصة أوروبا. ولقد انطلقت شرارتها الأولى في آذار (مارس) 1938 بغزو هتلر للنمسا، ودخلتها الولايات المتحدة الأميركية بعد الهجوم الياباني على أسطولها في المحيط الهادئ، واستمرت ست سنوات واستعمل فيها السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ، وحصدت أرواح 17 مليوناً من العسكريين وأضعاف ذلك من المدنيين. لكن استخدام الولايات المتحدة القنبلة الذرية في الحرب لإرغام اليابان على الاستسلام فتح باب التسابق لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. أما على المستوى السياسي فكان من أبرز نتائجها تشكيل خريطة القوى الدولية الجديدة بعد الحرب وبروز الولايات المتحدة فاعلاً رئيسياً في النظام الدولي الجديد، وإنشاء هيئة الأمم المتحدة لتكريس الخريطة الجديدة.
وفي خريطة العالم الجديدة تلك نشأت إسرائيل، واعتبر اليهود المؤسسون للدولة اليهودية “أن النكبة التي حلت بالشعب اليهودي وأدت إلى إبادة ملايين اليهود في أوروبا دلالة واضحة إلى الضرورة الملحة لحل مشكلة تشرده عن طريق إقامة الدولة اليهودية في أرض إسرائيل من جديد”. كذلك يعتبر هؤلاء أن “الجالية اليهودية ساهمت في هذه البلاد خلال الحرب العالمية الثانية بقسطها الكامل في الكفاح من أجل حرية الأمم المحبة للحرية والسلام وضد قوى الشر والباطل النازية، ونالت بدماء جنودها ومجهودها في الحرب حقها في الاعتبار ضمن مصاف الشعوب التي أسست الأمم المتحدة”.
وهكذا تأسست إسرائيل بعد انسحاب بريطانيا من فلسطين يوم 14 أيار (مايو) 1948، فأعلن ديفيد بن غوريون في اليوم نفسه قيام الدولة الإسرائيلية وعودة الشعب اليهودي إلى ما أسماه أرضه التاريخية.
والسؤال: لماذا ساعدت الولايات المتحدة والقوى الغربية على إنشاء إسرائيل؟
الجواب هو في ما يقوله رجل المال اليهودي البريطاني اللورد روتشيلد في خطابه إلى وزير الخارجية السير بالمرستون، في آذار 1840 “إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر والعرب في آسيا.. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون بمنزلة حاجز يمنع الخطر العربي ويحولُ دونه”.
وبالتالي فإنّ ما جعل الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، وآخرهم جو بايدن، ومن قبلهم الإمبراطورية البريطانية، يعلنون من دون مواربة أنه إذا لم تكن توجد إسرائيل لاخترعوها وأوجدوها، هو إدراك الولايات المتحدة والقوى الغربية أن اتحاد مصر وبلاد الشام حين يقع يكون بمنزلة الكمَّاشة التي تهيمن على الشرق الأوسط، وبالتالي فإنّ وجود إسرائيل يكون الحصن المنيع لخدمة المصالح الإستراتيجية الغربية، والأميركية تحديداً.
أما زوال إسرائيل كما ينادي البعض فهو قد يحتاج إلى حرب عالمية ثالثة تغير خريطة العالم من جديد، لكن إذا كانت هذه الحرب قد بدأت بالفعل، وربما تكون واشنطن في حالة إنكار لها، بالرغم من خوض روسيا والصين وإيران حرباً علنية مع الولايات المتحدة، لكن كل ذلك لا يكفي.
يمكن أن نعتبر حرب غزة عالمية بسبب امتدادها عبر قارات العالم، ولكنّها في الوقت عينه ليست حرباً شاملة، بل حرب لا مركزية بجبهات قتال منفصلة وتمتد عبر دول في أنحاء مختلفة من العالم، حرب تُخاض بطرق “هجينة”، بدأت بالتضليل الإعلامي الذي ساهم مساهمةً كبيرة في حشد القوة العسكرية الأميركية لدعم إسرائيل.
بالتالي فإن الضبابية التي تخيم على استراتيجية هذه الحرب تطمس الخطوط الفاصلة بين الحرب والسلام والمقاتلين والمدنيين، وتزيد صعوبة تصنيفها عالمية أو لا.
وإذا كان الهدف هو التخلص من العالم الأحادي القطب حيث النفوذ الأميركي في معظم مناطق العالم، وهو هدف يجمع الصين وروسيا وإيران، واستحداث نظام عالمي متعدد الأقطاب، ولو كان فعلاً هذا ما تريده إيران والصين من دون روسيا التي تمضي في حربها مع أوكرانيا، لرأينا الصواريخ الإيرانية التي تصل إلى مسافات تتعدى 1200 كيلومتر، قادرة على ضرب إسرائيل مباشرةً، أي قادرة على فتح حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل وبالتالي بين إيران وأميركا، لكن مع كل الضربات التي وجهت لإيران فقد تحاشت الردّ، ما يعني أنها مواجهة تحت سقف التفاوض.
ومن المؤشرات أيضاً إلى أن هذه المعادلة ما زالت تحكم الحرب الهجينة تلك، هي أن الحرب في غزة بلغت ذروتها، لكن الوساطة المعتمدة في ضبط جبهات المواجهة ما زالت سيدة الموقف، بخاصة مع موجة التصعيد الأخيرة التي بدأت بتهديد الحوثيين الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وبتكثيف قصف الفصائل العراقية على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، إضافةً إلى تصعيد جبهة القتال بين إسرائيل و”حزب الله” في جنوب لبنان.
وعليه فإن حرب غزة التي دخلت شهرها الرابع، وإن كانت تختلف من حيث الأسباب والقوى المتصارعة، فإنّ تحولها إلى حربٍ عالمية ثالثة ليس مستبعداً إذا ما طال أمدها، وانخرطت فيها دول أكثر، واستخدمت فيها أسلحة دمار شامل قد تُجبر المعارك إذا ما توسعت على استخدامها، بخاصّة أن حصد الأرواح بالآلاف أو الملايين لا يشكّل أي ضغط لوقف الحروب، فملايين القتلى في الحربين العالميتين لم تكن سبب توقفهما، بل المصالح الاستراتيجية للقوى العالمية هي التي تقرر من يعيش ومن يموت